عندما قدمت الى بريطانيا دخلتها بسعال شديد وخرجت منها بنفس الحالة!!!!
وما بين اول سعال واخر سعال كانت حياة مليئة مزدهرة بالمعارف, تعلمت كيف اقبل الاخر واقبل اختلافي معه رغم عدم ايماني بقناعاته, تعلمت عن الثقافات التي اختلطت ببعض شبابها, ولمست ورأيت كيف يمكنني ان اقف في طابور ولا اتذمر , واحترم القانون ولا ينتابني احساس بالذل لانصياعي للقانون وانا ذاك الفتي البدوي الذي عاش بلا (عقال) وبقليل من العقل!!!
تعلمت كيف يكون المرغوب امامي ولا اسقط والممنوع مباحا بلا رقيب ولا ارغب,,, تعلمت اشياء ما كنت لاتعلمها وانا في صحرائي, وبين اغنامي وابلي!!
ولان عقل جدي كان يتبعني ويتابعني فقد القى بظله على تفكيري المشبع بالصحراء والجفاف,, فلم اسجل ابدا مع مركز صحي!!! ولم ازر مستشفى الا لمعايدة مريض عربي او مرة واحدة للتبرع بالدم.. والحمد لله.
حينما كنت امرض كنت امزج الليمون مع الشاي الاخضر الساخن,, وكنت اجفف انفي بمحلول ملحي او عصارة الليمون!! تماما,, كنت افعل ذلك لاني ومنذ وقت طويل عزفت عن تناول العقاقير الطبية الغير لازمة والتي في احيانا كثيرة اعتقد انها تجارية بحته بل انها (مضرة!!).....
هذا هو عقلي الذي يرفض ثقافة الاسبرين والمضاد الحيوي,, ويعتقد في كوب شاي!!! نعم ,, هكذا جعل عالم الصحراء في عقلي من كوب الشاي وحليب الابل,, شفاء وان لم تنفعك فلن تضرك!! هكذا هي ثقافة الاجداد الصحراويين, وحينما وطنتنا الدولة واستصلحت لنا الوديان ومنحتنا المزارع صرنا نتجه الى زيت الزيتون من شربه الى الدهن الى غمسه بخبز التنور الساخنة, ومع تطورنا ودخول العالم لعصر المعلومات دخلنا نحن بدورنا الى عصر العسل فصرنا نتسابق على صيد النحل!! وتربيته وامتلاك خلاياه.
في بريطانيا لم اجد لخبز التنور من اثر وخجلت من اسأل العجوز الايرلندية القاطنة يورك عن (حمية خبز التنور!) فسنها لا يسمح لها بذلك وهي تعاني حقا من اوجاع في الظهر,,,
لففت شوارع يورك العتيقة ذات اصيل فلم اجد تنورا واحد يعلن عن نفسه !! فلم استطع رؤية الاشارة وهي اما رؤية الدخان او رائحة الخبز...
لعجبي الشديد انه كلما خرجت للبحث عن الخبز اعلنت السماء البكاء!! وانا اردد ( ماشاء الله تبارك الله , اللهم احفظنا من سحائب السوء,, اللهم اجعلها سقيا رحمة لا سقيا عذاب) ومنذ كنت طفلا وانا اسمع اعمامي يرددون هذا ,, نعم يخرجون رؤسهم من الابوب والنوافذ والخيام والبراريك ويرددون هذا ونحن الاطفال النصف عراة كنا نلعب بـ(القاطر) .. هكذا كانت الحياة هناك , طاهرة وبسيطة ومن السماء الى الارض ومن الارض الى السماء مباشرة بدون وسائط متعددة ولا منفردة!! بدون وسائط تخزين منقوله ولا ثابتة...
اما هنا في يورك العجوز الملتفة بسورها القديم,, فكل شئ يمر بواسطة الباوند,, لابد من حضورة في كل المناسبات,, ومع هذا وضعت في جيبي عدد من ورقات الباوند بفئات مختلفة صالحة قانونا لسداد أي مبلغ رغم انه لم يكتب عليها هذا , كما اني حملت كالعادة بطاقة الائتمان علي اجد تنورا لا يقبل النقدي!!!
اسير في شوارع المدينة بلا انيس,,, لم اجد تنورا واحد وان كان مطفأ ,, تمنيت انه لو كان هنا تنانير بعدد الخمارات او حتى اقل بقليل,,,
يصادف مروري دوما امام محل الشاورما لصحابه الكردي الذي يناديني دوما بـ(اخي) مما يضيف الى (نجعي) فردا اخر في يورك,, فاغبط لذلك ولكن سرعان ما تزول الغبطة بخروج قطعة من الاعشاب الجافة من جيبيه والتي اخبرني عنها يوما بأنها من النوع الافغاني الممتاز!!!
يطالني اليأس في البحث عن ولو (فردة) واحدة او حتى (قنان) من التنور الساخن,, فارجع الى عجوزي الايرلندية وزوجها الانجليزي المغرم بالارسنال.. ولا حديث لي عن الكرة رغم حبي لممارستها فانزوي في حديث ذو لكئلئة معها عن كل الاشياء ,, فتضحك حينا من نطقي للكلمات الاعجمية , ولا استحي من هذا فاطلب منها الفرق وموطن الخطأ,, تضمني اليها وتناديني بكلمات استحي منها فتارة ترميني بعزيزي واخرى حبيبي و ثالثة بالحلو!! ولا مجال لان اعتقد بانها وهي تشارف على الثمانين قد وقعت في غرامي من ثالث شهر وهي الايرلندية العتيدة!!!
اصارحها حينا عن التقليد المقلوب الذي يمارسه الانجليز فتضحك واقرأ بين ما تبقى من اسنانها مثلا عربيا يقول : ما لا يدرك كله لا يترك كله!! احادثها عن عدم حضن الرجال لبعضهم البعض بل انها لديهم عيب كبير في حين انهم يضمون النساء ضما قويا!!! اما النساء فمسموح لهن ضم الجنسين بلا ادني ريبة!!!
اخبرتها صادقا بأن حضن المراءة يشعرني بالضعف اما حضن الرجل فيشعرني بالاخوة,, هناك فرق الا تدركين ذلك يا ماري؟!!!
- اعرف ما تقصد وحتى نحن في ايرلندا لدينا هذا فاخي كان يحضن ابناءه ووالدي كان يفعل ذلك
ثم اردفت ماري متسآئلة عن عائلتي وعدها وتعدادها واختتمت بسؤال عن مؤهل والدتي العلمي؟
كانت بالنسبة لي صدمة وكان التحدث عن امية والدتي ربما سيجعل منزلتها لدى هذه العجوز سفلى رغم ما تكبدته من مشاق في الاعتناء باطفالها بعد رحيل والدي.
حاولت ان ابتدع اجابة ولكن الوقت لم يسعفني فوجدتني اجيب:
- والدتي اميه ماري!! هي لا تقرأ ولا تكتب,, ليس لانها لم تود ولكن بسبب الطليان ,, صدقيني انهم لم يتركونا نعش بسلام بل انهم لم يتركوا لنا الفرصة لبناء بعض المدارس,,
- حقا!
- نعم انت فعلا لا تستطيعين تخيل كلمة حرب انكم تنعمون بالسلام دائما
- انت مخطئ ايها الحلو! فنحن الايرلنديون اكثر من يعرف عن الحرب ,, وانا تماما مثل امك امية او اكاد فقد درست بعض الفصول الابتدائية الاولى ثم توقفت لحاجة امي لي فقد كنت اعينها في المطبخ,
تأوهت وبدأ الحديث يخرج من اعماقها وواصلت
- الزمن لم يكن سهلا كهذا الزمن يا عزيزي
ثم حاولت ان تهرب من المزاج المأساوي الذي وضعتها فيه (لقلة ذوق مني او لقلة معرفة او لكلاهما) وطلبت من زوجها الكهل ان يناولها شيئا من الويسكي الممزوج بالليمونادا,, ووبينما كانت تهم باحتساء مشروبها سألتني :
- انا وامك بنفس المستوى التعليمي ونحن كذلك نحبك بنفس الدرجة فانا الان كأمك اليس كذلك؟
اجبت وانا اهم بالرحيل لغرفتي:
- بالتأكيد فانتما تتشابهان
احتضنتني والقت بقبلة على خدي معلنة بها (تصبح على خير) فيما لوحت لبعلها بيدي من بعيد على انها تحمل نفس المعنى!
وانا على السلالم صاعدا لغرفتي بدأت اتمتم :
- لا حق زي بعضكن غير امي تشرب في حليب البل وانت تشربي في وقود الطائرات!!!! يا ودي ماهوش هاداك الفرق!!!!
اصحو كل صباح وانظر من النافذة علي اجد احدا يحمل (سطل الحلب!) راجعا به من الابل بعد حلبها ,, ولعي ارتشف منه شيئا على الصباح!! ولكني كل صباح لا اجد الا اناس يقفون امام محطة الحافلات بانتظار الحافلة رقم 6 او اشخاص مقنعون يمتطون صهوات دراجاتهم باتجاه مركز المدينة!!!
لا شئ يشبه رغوة حليب الابل هنا الا اكداس الثلج على اسطح البيوت وبجوار فناء حديقة منزلنا ( منزلي انا والعجوز وبعلها الكهل ),, فاذهب للمدرسة بدون الحصول على حليب الابل!
تكرر حرماني سنتين كاملتين في بريطانيا لا خبز تنور ولا حليب ابل ولا زيت زيتون نقي و (امتاع السنة!)
حتى بعد انتقالي لليدز او مكوثي القصير ببرادفورد تواصل الحرمان....
لا الموريسونس ولا التيسكو ولا آزدا,, لا بوبكر سوبرماركت ولا الحلال ماركت ولا الحق ماركت اشبعن ذاك الحرمان,, بل ان حتى الباكستانيات اللاوتي يملأن الشوارع جيئة وذهابا بزيهن الذي يشبه الى حدا ما (الملحفة) الا انهن يفتقدن الى (الفلاحة) التي تمتلكها مرتدية نفس الملحفة في بوادي ليبيا الحبيبة.
لا شئ لديهن هنا الا التوابل وتدلى الحلي من الانوف وهز الرؤوس عند الكلام!!!! وربما اشياء اخرى لم تذكر.
الحرمان شئ والفقد شئ آخر ,, الحرمان يمكنك يوما ان تشبعه لكن الفقد لن يتحول يوما الى وجود او ايجاد او تواجد,, الفقد يولد حرمانا دائما وابديا في حين ان الحرمان لا يشعرك بالفقد فالمحروم منه موجود هناك وتحتاج الى زمن ما او شئ ما او شخص ما يساعدك للوصول اليه,, الحرمان يموت بالاشباع, اما الفقد فيعيش بالتواجد!!
المعنى ببطن (المثرثر) فاعذروا الغموض ان وجد والسطحية ان اُعلنت وعلكم تجدون فيه ما ينفع.
دمتم بالف خير