سفر البنـــــات إلى الخــــارج
بين متعـــة الحريــــة و صعوبـــــة المسؤولية ...
رشا فائق
" الباحثات عن الحرية " فيلم سينمائي للمخرجة المصرية " إيناس الدغيدي "
ظهر على شاشات السينما العربية قبل عامين مثيرا جدلا واسعا نظرا لحساسية المادة التي تناولها ،
فهو أول فيلم عربي يتناول مشكلات الفتيات العربيات في الخارج من خلال سرد لقصص حياة ثلاث فتيات من جنسيات عربية مختلفة يلتقين في بلد أجنبي للدراسة و العمل و ما يواجهن من صعوبات و مشكلات تتعلق بقبول أو رفض عادات و أعراف المجتمع الجديد الذي التقين فيه .
إننا لسنا بصدد الحديث عن الفيلم سينمائيا و إنما الحديث عن الإشكالية التي يطرحها الفيلم والمتعلقة بمدى تقبل فكرة سفر الفتيات للخارج.
ربما لا تبدو فكرة السفر بحد ذاتها إشكالية في مجتمعنا خاصة مع انتشارها الواسع هذه الأيام إلا أن رواجها مرتبط بفكرة الزواج ، بمعنى أن السفر يتم بسبب الزواج ، و هو أمر مشروع و طبيعي و يتم بصحبة و وصاية الزوج الرجل .
إلا أن الإشكالية الحقيقة تبرز عند سفر الفتاة إلى الخارج بدافع الدراسة أو العمل ،عندها ينتفي السبب المشرع للسفر و يغيب الزوج الوصي لتبرز مجموعة من المشكلات تتعلق بمدى قبول و دعم المحيط الداخلي لسفر الفتاة و مدى استعدادها هي و قدرتها على التأقلم مع المحيط الجديد الذي ستنتمي إليه.
وين مسافر .. اوعى تسافر :
" نزل خبر قبولي في قوائم الموفدين إلى فرنسا لاستكمال تخصصي العلمي كالصاعقة على عائلتي ، فعلى الرغم من معرفتهم المسبقة بتقدمي للبعثة و التي أنا بحاجتها لاستكمال تخصصي العلمي إلا أنهم لم يكونوا في الواقع على استعداد لقبول الأمر ،
حاولي إقناعي بالعدول عن السفر تارة بإخافتي من الغربة و مشكلاتها و تارة بإثارة مشاعري تجاه والدتي التي لم تتوقف دموعها لحظة و كأنني سأغادر دون عودة علما بأنه سبق و أن غادر شقيقان لي للخارج بدافع الدراسة و ودعتهما والدتي بالزغاريد " بهذا تصف د.سنا نصير حال عائلتها حيال قرار سفرها للخارج .
وضع د. سنا يشبه وضع الكثيرات إن لم يكن هو الأفضل ، فقد استطاعت السفر في نهاية الأمر و لو ودعتها والدتها بالدموع .
في حين باءت جميع محاولات نوال بالفشل لإقناع والدها بالسماح لها بالسفر للمشاركة في دورة تدريبية مدتها ثلاثة اشهر فقط ،
واللافت للانتباه في حكاية نوال رفض الكثيرين من الأقارب التدخل في الموضوع لإقناع الوالد بسبب تضامنهم مع موقفه .
بالتأكيد يلعب الوضع الاقتصادي و البيئة الاجتماعية دورا في تشكيل وعي الأهل و قناعتهم ،
إلا انه من اللافت للانتباه أن رفض الأهل إرسال بناتهن للخارج ليس مرتبطا بالبيئات الفقيرة أو المتوسطة فقط ،
إذ يبدو أكثر وضوحا لدى العائلات ذات المستوى المعيشي المتقدم ، فغالبية العائلات ذات المستوى الاقتصادي الضئيل أو المتوسط ترى في السفر سبيلا لتحسين ظروف المعيشة و الوضع الاقتصادي خاصة و أن السفر غالبا ما يتم بمنحة حكومية مما يعني انتفاء العبء المادي .
تقول ريما " منذ البداية اخترت مجالا دراسيا ذو طابع أدبي فرغم تفوقي في الدراسة و محبتي لها إلا أنني لم أفكر يوما في طرح موضوع استكمال دراستي في الخارج رغم توفر الإمكانية المادية لذلك ، لم يكن والدي يسمح لي بالمشاركة في أي رحلة مدرسية أو جامعية خارج حدود مدينتنا فهل سيقبل بإرسالي للخارج للدراسة !!!"
ربما يبدو هذا المنطق غريبا و نحن في القرن الواحد و العشرين إلا انه حقيقة لا يمكننا تجاهلها خاصة في ظل هيمنة المجتمع الذكوري و رسوخ مفاهيمه التقليدية. يلجا البعض إلى العواطف ليجمل حقيقة رفضه سفر الفتاة إلى الخارج باستخدام تعبير الخوف على الفتاة على اعتبار أنها المخلوق الأضعف الواجب تأمين الحماية له ،
في حين يكون البعض أكثر صراحة و جرأة ليعبر تماما عن السبب كما هو حال السيدة نجاة " ليس مقبولا في مجتمعنا أن تنام الفتاة خارج منزلها فما الحال و هي تنام خارج البلد كلها بعيدا عن عين أهلها و ذويها " .
كلام السيدة نجاة و إن بدا مفاجئا إلا انه شديد الواقعية ،فالفتاة في مجتمعنا و إن امتلكت مؤهلا علميا عاليا مما يعني بالضرورة بلوغها سن الخامسة و العشرين فما فوق إلا أنها بنظر المحيطين بحاجة دائما إلى حارس إن لم نقل رقيب ؟؟؟؟ .
يقول د. منذر غنام الباحث الاجتماعي " مشكلة مجتمعنا العربي تكمن في بقاءه أسيرا لنظرة الآخرين إليه ، و هنا لا فرق بين عائلات ميسورة و أخرى متوسطة أو فقيرة فالعرف الاجتماعي و الخوف من انتقاد المحيط يشمل الجميع .
بالتأكيد السفر للخارج و الغربة ليست بالأمر الهين بالنسبة للأهل أو للمسافر بغض النظر عن كونه شابا أم فتاة ، الموضوع برمته يعود أولا لأسلوب التربية داخل الأسرة ، ثانيا مدى وثوق الأهل ليس بأبنائهم و إنما بصحة و نجاح الأسلوب الذي سلكوه في تربية الأبناء و مدى اقتناع هؤلاء الأبناء شبابا و بناتا بمبادئ و أسس هذه التربية " .
يا مسافر وحدك :
تفرض الرغبة في استكمال التحصيل العلمي و الحصول على شهادة عليا وجود شخصية طموحة لها أحلام تسعى إلى تحقيقها، مما يتطلب امتلاك شخصية قوية و مثابرة، ذلك أن مواجهة مجتمع جديد يمتلك ثقافة و عادات مختلفة سياسية و اقتصادية و بالطبع اجتماعية يفترض جرأة و شجاعة في التعامل مع مكونات هذا المجتمع .
بعد ركوب الطائرة يصبح المسافر شابا كان أم فتاة بعيدين عن توجيهات الأهل و وصايتهم في مواجهة عالم جديد يحمل بالتأكيد بريق و جاذبية المختلف ، و إذا كان الشاب يسافر مع دعوات أهله بالتوفيق و النجاح فان الفتاة تسافر مع مجموعة من التوصيات و الإرشادات الواجب إتباعها ، فكيف تكون المواجهة ؟
تقول م. رنا الأسود " في البداية كنت مرتبكة و متوترة فانا غريبة في مجتمع لا أجيد لغته تماما و لا اعرف أحدا فيه و لا كيف اسلك طرقاته فضلا على أن مخاوف والدتي و توجيهات والدي كانت تدور في ذهني ، بعد مرور شهرين و أكثر بقليل بدأت اعتاد الأمر خاصة و أن حياتي بدأت منتظمة أكثر و أصبحت أتقن لغته بصورة أفضل، بدأت عندها أتخلص من سطوة التوجيهات و احصل على متعة اكتشاف الجديد خاصة مع تعرفي على مجموعة من الطلاب كانوا من جنسيات عربية و أجنبية مختلفة ، خرجت للسهر لأول مرة و استمتعت كثيرا ، كان لدي رغبة في تجربة كل جديد حتى أنني شاركت في مظاهرات عمال المترو ..."
تبدو الرغبة في تجريب الجديد أمر منطقي خاصة و أن الفتاة تصبح مسؤولة مسؤولية كاملة عن نفسها و تصرفاتها، تقول م. رنا " في الحقيقة الأمر بد الأمر رائعا في البداية فانا أملك حرية كاملة في التصرف و التفكير و الحركة، المضحك في الأمر أنني و بعد اقل من ثلاثة اشهر سامت السهر و الرحلات خاصة مع بدء الدراسة الجدية و وجدت نفسي مضطرة إلى ترتيب غرفتي و الوقوف في طابور نظامي لغسل ملابسي و تحضير الطعام لنفسي و هي أعباء لم تكن في حياتي سابقا بالإضافة طبعا إلى أعباء الدراسة ."
إلا أن جاذبية و سحر تجربة الجديد سرعان ما تختفي لتبدأ بعدها المشكلات في الظهور خاصة و أن الأعباءو المسؤوليات تتحدد كما تقول رنا ، فما طبيعة المشكلات التي يمكن أن تواجه الفتاة في الخارج ؟؟؟
تقول م.الأسود " بالطبع هناك مشكلات كثيرة فجاذبية الجديد تنتهي بعد ستة اشهر على الأكثر، لنبدأ في مواجهة مشكلات عديدة اعتقد أن أهمها على الإطلاق هو التعامل مع المحيط ، فنحن نحاكم من وجهة نظر العالم بأكمله إلينا باعتبار أننا من دول العالم الثالث مما يستغرق وقتا ليس بقصير لإثبات العكس ، و بحكم أننا فتيات ينظر إلينا باعتبارنا متزمتات أو محافظات مقارنة بالفتيات من حولنا ، يستغرق الأمر وقتا ليس بهين لاثبات أننا من بيئة مختلفة و ليست متخلفة من خلال نتائجنا العلمية ".
تملك سهام البني أستاذة الفن التشكيلي رأيا مختلفا " أن نظرة الآخرين إلينا ليست مشكلتنا الأساسية لأنها مشكلة طبيعية نعاني منها كعرب جميعا بصورة عامة ، لو أردنا الحديث عن خصوصية مشكلات الفتاة في الخارج فأنا اعتقد أنها تكمن في تعامل أبناء البلد الواحد أو لاقل أبناء المنطقة الواحدة مع بعضهم البعض ، فالشباب عموما يندمجن بالمجتمع الغربي بصورة أسرع من الفتيات و يكسبن عاداتهم من لا مبالاة و فردية زائدة بصورة تبدو لي غير منطقية .
في بلدنا يندفع الشاب لتقديم المساعدة لبنت الجيران في حمل أكياس الخضار مثلا و لكنه لا يعير أدنى اهتمام إذ ما تعرضت أمامه إلى مشكلة إن لم يكن هو طرفا فيها بأفضل تقدير......" .
تبدو الصورة التي تقدمها السيدة سهام قاتمة و ربما غير مقبولة إلا أنها بالتأكيد موجودة ،
يقول د . غنام " بالتأكيد تتعرض شخصية الفرد إلى مجموعة من التغيرات التي يكون بعضها جذريا نتيجة الاحتكاك بالآخر المختلف لذا يبدو طبيعيا اكتساب جزء من عاداته و أسلوب حياته ، طالما انه في الأساس يكتسب من علمه و ثقافته و هذا الأمر برأي الشخصي ليس حكرا على الشباب دون الفتيات بل على العكس ربما تكون الفتاة عرضة لهذا التغيير بنسبة اكبر نظرا لكونها الأكثر تعرضا للوصاية في الداخل.
وعندما تصبح في مواجهة الخارج دون أي نوع من الوصاية الخارجية ستواجه صعوبة اكبر ليس في التعامل مع الخارج فقط و إنما في التعامل مع نفسها أيضا و الحكم بالتأكيد يعتمد على التربية السليمة و الشخصية السوية ".
يبدو الأمر أشبه بمعضلة عصية الحل ، ففكرة السفر بحد ذاتها تبدو إشكالية و في حال حصولها فهناك إشكالية اكبر تكمن في التعامل مع المحيط الجديد و التأقلم مع أسلوب الحياة المختلف ، فضلا عن مشكلات التكيف بعد العودة سواء للفتاة أو للمجتمع المحيط بها و هو أمر يحتاج إلى بحث آخر منفصل .
هذه الإشكالية ليست حكرا على الفتيات فقط إلا أنهن اكثر عرضة للمساءلة سواء كنا في الداخل أو في الخارج حيث تزداد مسؤولياتهن تجاه أنفسهن قبل كل شي.و إذا كانت "ايناس الدغيدي " قد اختارت " الباحثات عن الحرية " كعنوان لفيلمها فان حاملات المسؤولية المضاعفة قد يصلح عنوانا لحديثنا هذا..
منقول للفائدة
المجتمع الاقتصادي/نيسان 2006